رينيه ديكارت ( 1596 م. _ 1650 م. )
وهو فيلسوف فرنسي وعالم رياضيات وفيزيائي وعالم فسيولوجيا؛ بعد أن أدى فترة تجنيده العسكرية ، استقر في هولندا الدولة الرأسمالية الأولى في عصره حيث كرس نفسه للبحث العلمي والفلسفي؛ وبسبب آراءه اضطهده اللاهوتيون الهولنديون مما اضطره إلى الانتقال إلى السويد عام 1649 حيث مات بعد ذلك بعام.
وترتبط فلسفة "ديكارت" بنظريته في الرياضيات وعلم نشأة الكون "الكوسموجونيا" والفيزياء؛ وهو أحد مؤسسي الهندسة التحليلية (16) .
كان "ديكارت" في مبحث المعرفة مؤسس المذهب العقلاني ، هذا المذهب الذي يرتكز عنده على مبدأ الشك المنهجي أو الشك العقلي "الشك الذي يرمي إلى تحرير العقل من المسبقات وسائر السلطات المرجعية" ومن سلطة السلف ، الشك الذي يؤدي إلى الحقيقة عن طريق البداهة العقلية كالحدس_ التحليل_ التركيب (17) .
لقد أقام "ديكارت" وفق أسس الشك المنهجي والبداهة العقلية؛ يقينه الأول من مبدأه البسيط الذي عرفناه من خلاله "أنا أفكر.. أنا موجود" ، هذا المبدأ الأول هو بداية كل فكر عقلاني وهو ما سنجده مضمراً وصريحاً في الفلسفة العقلانية من ديكارت إلى ماركس، إنه المبدأ الذي وضع الذات والموضوع في علاقة ضرورية عقلية ديالكتيكية، وأسس مبدأ وحدة الفكر والوجود.. لكن "ديكارت" رغم ذلك كله فصل بين العقل والطبيعة بإرجاعها إلى ماهيتين مختلفتين هما: الفكر والامتداد، ولجأ إلى الإرادة الإلهية للربط بينهما.
وفي هذا السياق يؤكد المفكر العربي "إلياس مرقص" (18) أن: شرط تأسيس العقلانية في الفكر العربي يقتضي أولاً دراسة لمقولة العقل وابراز مقولة الفكر وتوابعها ولاسيما "المفهوم" ومقولة "الشكل" ويقتضي ذلك العودة إلى المبدأ الديكارتي العقلي "أنا أفكر.. أنا موجود" الذي يؤسس العقلانية على مفهوم الإنسان الفرد و الخاص و العام أوالكلي؛ الأنا التي قوامها الفكر والعمل ويقتضي ذلك أيضاً مجاهدة النفس ونبذ أوهامها ومسبقاتها وكبح أهوائها ونزواتها وجموحها على صعيد الفرد والجماعة والطبقة والأمة والحزب.
• الأفكار الأساسية في فلسفة "ديكارت" :_
• ينطلق في فلسفته من أثينية DUALISM الروح والجسد، ويسلم بوجود جوهرين مستقلين هما: مادي وغير مادي، يتمتع الجوهر غير المادي بصفة أساسية هي التفكير، بينما يتميز الجوهر المادي بالامتداد ، إنه كما يقول ماركس : يفصل فصلاً تاماً بين فيزيائه وميتافيزيقاه ففي إطار الفيزياء تشكل المادة الجوهر والأساس الوحيد للوجود والوعي" (19) .
لقد بدأ "ديكارت" من "التشكيك بيقينية جميع المعارف التي كانت تعتبر حقيقة لا يرقى إليها الشك" إنه ينطلق من الشك المطلق الكلي والراديكالي لكنه لم يكن لا إدرياً AGNOSTIC (ولا ريبياً ،( إنه ينتقد المعرفة الموجودة بهدف البحث عن معرفة أكثر يقينية ) ، يدفعه في ذلك الإيمان بوجود مثل هذه المعرفة ، فالشك عنده وسيلة لامتحان معارفنا ومنهجاً للوصول إلى اليقين ، فمهما اتسعت دائرة الشكوك يبقى هناك في النشاط المعرفي شيء لا يرقى إليه الشك ( الشك ذاته ) ، وفي كل الحالات يبقى وجود الشك ذاته ، وبما أنني أشك فإنني أفكر وبما أنني أفكر إذن أنا موجود..(20).
• ولكن إذا كان الشك هو الوسيلة العقلية الوحيدة التي استخدمها "ديكارت" في البرهان على التفكير ، فما هي الكيفية التي بدأ بها شكوكه ؟ يجيب "ديكارت" أن من الممكن ألاَ يكون جسمي موجوداً فمن الجائز أن تكون هناك روح خبيثة أوجدتني على حالة أظن بها أن لي جسماً ، بينما لا أملكه في الواقع ، ولكني أعلم يقيناً بأنني أنا الذات المفكرة والشاكة لست وهماً بل موجوداً أنا أفكر إذن أنا موجود..
مشكلة المنهج عند ديكارت
نستنتج مما سبق أن معيار اليقين عند ديكارت لا يوجد في الممارسة ، بل في الوعي الإنساني "الوعي بأنني أفكر.. إذن فأنا موجود" وبالرغم من أهمية هذا المعيار ، إلاَ أنه يؤشر على النزعة المثالية عند "ديكارت" التي تتعمق بالمنطلقات الدينية التي وضعها أساساً لمذهبه الفلسفي ، فالبرهان على وجود العالم يوجب أولاً البرهان على وجود اللــه ، إذ "أن فكرة الله تتميز عنده بأنها وجود كامل لامتناه ، فهو العلة الأولى وبما أننا موجودون ومعلولون للعلة الأولى التي هي الله كان الله موجوداً؛ ورغم تأكيده على عدم ارتباط الفكر بالمدركات الحسية إلاَ أنه قال بوجوب تسلح العقل بالحدس والاستنباط للوصول إلى المعرفة اليقينية ، وحدد لذلك منهجاً يستند إلى أربع قواعد (21) هي:
1. التسليم بيقينية المبادئ التي تبدو للعقل بسيطة واضحة لا تثير يقينيتها أي شك "ادراك الحقائق البديهية_ قاعدة البداهة.
2. تقسيم كل مشكلة إلى أجزائها "قاعدة التحليل عبر خبرة الحواس"
3. الانتقال المنظم من المعروف والمبرهن عليه إلى المجهول الذي يتطلب البرهان "قاعدة التركيب أو المعرفة التي تُكتَسب عن طريق الحوار مع الآخرين"
4. عدم إغفال أي من مراحل البحث المنطقية والإحصاء والاهتمام بقراءة الكتب الجيدة.
أخيراً إن المهمة الاساسية للمعرفة عند ديكارت ، هي ضمان رفاهية الانسان وسعادته عبر سيطرته على الطبيعة وتسخير قواها لصالحه ، إن فلسفته _ كما يقول ول ديورانت_ تستند في جوهرها إلى التوجه في تفسير العالم كله (ما عدا الله والنفس ) بالقوانين الآلية والرياضية؛ وفي ضوء ذلك فإن الفكر التقدمي رأى في هذا الفيلسوف مفكراً عبقرياً وعالماً مجدداً "أدخل الفلسفة الأوروبية التي كانت من قبل لاهوتاً ، في مرحلة جديدة تماماً" أعاد تأسيسها على العلم: الرياضيات والفيزياء ،هكذا ارتبط تقدم الفلسفة في أوروبا بتقدم العلم/التجربة ارتباط معلول بعلة(22).
توماس هوبز ( 1588 م. _ 1679 م. )
أحد فلاسفة القرن السابع عشر ، تأثرت فلسفته المادية بالثورة البرجوازية الإنجليزية ضد الأرستقراطية الإقطاعية في تلك المرحلة؛ رفض هوبز في مذهبه في القانون والدولة نظريات الأصل الإلهي للمجتمع ، وقدم أول محاولة في نظرية العقد الاجتماعي (23) التي أكد فيها أن النظام الملكي المطلق هو أفضل أشكال الدولة ، ولكن " تفسيراته وتحفظاته العديدة تترك متسعاً للمبادئ الثورية ، وتتركز فكرته لا على المبدأ الملكي بما هو كذلك وإنما على الطابع غير المقيد لسلطة الدولة ( المركزي )؛ وهو يبين " أن سلطات الدولة تتفق مع مصالح الطبقات التي قامت بالثورة البرجوازية في القرن السابع عشر ، كما تضمنت نظريته في المجتمع والدولة بذور مادية للظواهر الاجتماعية " (24) .
تأثر هوبز بالحياة الفكرية النشطة التي عبرت عن بدايات الصراع بين الأرستقراطية والبرجوازية في أوروبا عموماً وانجلترا بوجه خاص.
وكان موقفه منحازاً ضد المفاهيم المحافظة التي تطالب بإبقاء دور الكنيسة أو اللاهوت في السلطة السياسية وأعلن أن المسألة المحورية هي التأكيد على الطبيعة الدنيوية والبشرية للسلطة السياسية ، والمصدر التعاقدي لسلطانها.
لقد كان توماس هوبز أبرز أعلام الفلسفة "الراديكالية أو اليسار الفلسفي" التي تبنت المادية الميكانيكية ودافعت عنها؛ وهو أول من حول الكوزمولوجيا الجديدة "علم بنيان العالم" بصيغتها الذرية_ إلى أونطولوجيا شمولية متماسكة تدَّعى تفسير الوجود بجميع ظواهره وتجلياته تفسيراً علمياً استنادا إلى علم الحركة أو الميكانيك متأثراً بصديقه "جاليليو" (25) .
لقد أقام هوبز ترابطاً في فلسفته بين الله أو القانون الطبيعي وبين العقل ( الحالة المدنية أو المجتمع / الدولة ) إذ أن الله عنده هو العقل الذي يسكن القانون الطبيعي ، والله بطبيعته لا يستطيع إلاَ أن يكون عقلانياً ، وهو لا يستطيع أن يحول الخطأ صواباً أو الشر خيراً، قوانين الطبيعة إذن هي قوانين العقل الأزلية الخالدة ، وتتخذ علمنة السلطة شكل نقلها من الحكم المؤسس على الحق الإلهي إلى الحكم المؤسس على العقل الإلهي ؛ فالحالة الطبيعية هي حالة ينعدم فيها العقل، والحالة السياسية المدنية هي الحالة التي يحكم العقل عملية الإنتقال إليها "(26) .
جوتفريد فيلهلم لايبنتز ( 1646م. – 1716م. )
وصل من خلال اللاهوت "Theology" إلى مبدأ الترابط المحكم (الشامل والمطلق) بين المادة والحركة"بعكس "ديكارت" الذي يقول: بجوهرين مستقلين مادي وغير مادي؛ إلتزم بمبدأ التجريبية في المعرفة التي تعتبر الأحاسيس شيئاً لا غنى عنه للمعرفة ، ويوافق على القول بأنه لا يوجد شيء في العقل إلاَ وسبق وجوده في الأحاسيس ، غير أن التجربة والأحاسيس ، بالتالي لا تستطيع أن تفسر الجوانب الأساسية في المعرفة وهذه الجوانب الأساسية تتمثل في ضرورية بعض الحقائق وكليتها فلا تعميم معطيات التجربة ولا الاستقراء يمكن أن يكون مصدراً لمثل هذه الحقائق ، كان مثالياً موضوعياً حاول الجمع بين العلم والدين أو بين المادية والمثالية.. لقد رفض الكثير مما ورد في كتاب جون لوك "محاولة في الفهم الإنساني" الذي كان أداة لنشر أفكار المادية والتجريبية المادية ودافع عن نظريته التي "تدافع عن المثالية والقبلية في نظرية المعرفة" بتأكيده على أن الحقائق الكلية ذات منشأ قبليApriori”" يعود إلى العقل ذاته، وحسب تعبيره "أن الدماغ الإنساني لا يشبه لوحاً مصقولاً بقدر ما يشبه قطعة من الرخام عليها عروق ترسم ملامح التمثال الذي سينحته الفنان فيها".. وهذا يتناقض مع الفهم العلمي المادي للمعرفة التي تشترط انعكاس المعرفة في الذهن عبر الحواس والتجربة والممارسة.
في مؤلفه "العدالة الإلهية".. حاول أن يبرهن فيه على أن عالمنا الذي خلقه الله هو بالرغم مما فيه من شرور ، أحسن العوالم الممكنة _عندنا في الشرق مثلاً يقال: لو اطلعتم في الغيب لاخترتم الواقع_ فما نراه من شرور هو شرط ضروري في رأيه للتناسق في العالم ككل ، في رأينا إن جوهر هذه الفلسفة هو الاستسلام للأمر الواقع ، وهو يقترب من فلسفة " ليس في الإمكان أبدع مما كان " .
باروخ سبينوزا (1632م. – 1677م. )
وهو يهودي هولندي.. تشكل فلسفته أحد الاتجاهات الرئيسية في مادية القرن السابع عشر؛ وقد أكد على أن الفلسفة يجب أن تعزز سيطرة الإنسان على الطبيعة.. دحض سبينوزا افتراءات رجال الدين اليهود عن "قدم التوراة" وأصلها الإلهي.. فهي ، أي "التوراة" كما يقول ليست وحياً إلهياً بل مجموعة من الكتب وضعها أناس مثلنا وهي تتلاءم مع المستوى الأخلاقي للعصر الذي وضعت فيه.. وأنها "سمة لكل الأديان" حول الحكم يعتبر "سبينوزا" أن الحكم الديمقراطي هو أرفع أشكال الحكم بشرط أن يكون تنظيم الدولة موجهاً لخدمة مصالح كل الناس ، ويؤكد أن المشاركة في السلطة العليا حق من حقوق المواطن الأساسية وليست منَة من الحاكم؛ والحكم الفاضل في رأيه هو الذي يشعر فيه الناس أنهم هم الذين يسيَرون أمور الدولة وأنهم يعيشون وفقاً لإرادتهم الخالصة وفق عقلهم وتفكيرهم الخالص.
جون لــوك ( 1632م. – 1704م. )
من كبار فلاسفة المادية الإنجليزية، وقد برهن على صحة المذهب الحسي المادي الذي يرجع جميع ظروف المعرفة إلى الإدراك الحسي للعالم الخارجي.
رفض وجود أية أفكار نظرية في الذهن.. فالتجربة بالنسبة له هي المصدر الوحيد لكافة الأفكار..! وحول فلسفته يقــول ماركس :"لقد أقام لوك فلسفة العقل الإنساني السليم.. أي أنه أشار بطريقة غير مباشرة إلى أنه لا وجود لفلسفة إلاَ فلسفة البصيرة المستندة إلى الحواس السليمة".
ومن آرائه الاجتماعية والسياسية قوله: "بأن مهمة الدولة هي صيانة الحرية والملكية الفردية، وعلى الدولة أن تسن القوانين لحماية المواطن ومعاقبة الخارجين عن القانون" وقال أيضاً " إن الحالة الطبيعية للبشر تتأكد عند سيطرة الحرية والمساواة كمفاهيم أساسية تحكم المجتمع "؛ وتتوزع السلطة عنده إلى سلطة تشريعية وسلطة تنفيذية وسلطة اتحادية.. كما طالب بالفصل التام بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، وقد دعمت آراؤه التوجهات الليبرالية في بريطانيا آنذاك (27)